تاريخ الاحتفال بعيد الغطاس
إن كل من يرجع للتاريخ القديم، يرى أن عيد القيامة كان يستقطب كل الأعياد، وقد استمر يوم الأحد عيد الفصح الإسبوعى ثم ظهرت رغبة فى الاحتفال بواحد من آحاد السنة بطريقة مميزة كونه عيداً للقيامة.
أما الأعياد الأُخرى.. فلم تدخل التقويم الكنسى، فى بداية نشأة المسيحية، حتى عيد الميلاد لم يكن له أثر كعيد منفصل عن عيد الغطاس إلا فى سنة (430م) على وجه التقريب، والسبب:
إن الكنيسة كانت ترى: إن الاحتفال بأعياد الميلاد عادة وثنية يجب نبذها، وقد صرّح العلامة أوريجانوس فى أوائل (ق3)، بأن الكنيسة لا تنظر بعين الرضى إلى مثل هذه العوائد، وأشار إلى أن الكتاب المقدس لم يذكر إلا عيد ميلاد فرعون وهيرودس، فأحدهما فى نظره وثنى والثانى كافر ، كما رأت الكنيسة أن عيد ميلاد القديس الحقيقى، هو يوم مماته ودخوله السماء ولهذا عندما بدأت تُكرّم الشهداء والقديسين فى (ق3) صارت تحتفل بذكراهم فى يوم استشهادهم. من هذا نفهم عدم اهتمام الكنيسة الناشئة بالبحث عن ميلاد المسيح والاحتفال به .
فى القرن الثانى ، ومن كتابات القديس إكليمنضس السكندرى عن عيد الغطاس فى نعرف أن أتباع باسيليدس أقاموا عيداً خاصاً للاحتفال بظهور الرب فى (11طوبة = 6يناير) وكرسوا عشية العيد للصلاة وقراءة الكتب الدينية..
أما باسيليدس هذا فهو رئيس أحد جماعات الغنوسيين أو ” العارفين بالله ” كما يُترجم اسمهم ، وهـو المؤسس الأول للمدرسة الغنوسية فى مصر سنة (130م) أما أخطر معتقداتهم المنحرفة فهى تلك البدعة، التى نادوا بها بأن المسيح إنسان كسائر البشر، ثم أصبح ابن الله فى عماده، عندما حل عليه الروح القدس على هيئة حمامة، وتبناه الآب بقوله: ” هذا هو ابنى الحبيب ” (مت17:3) فماذا فعلت الكنيسة إزاء هذه المعتقدات؟!
شجبت بدعة باسيليدس وأتباعه، وأطلقت كلمة إبيفانيا على ظهور المسيح فى ميلاده، وظلت تحتفل بعيد ظهور ابن الله ، ليس حسب مفهوم باسيليدس، إذ صححته فكانت تُقيم ذكرى الميلاد فى (5 يناير) مساءً وتحتفل بالعماد فى صباح اليوم التالى (6يناير).
ولكن لماذا تم اختيار يوم 6يناير كميعاد ثابت للاحتفال بالعيد ؟! يرجع ذلك إلى اعتقاد قديم كان سائداً لدى سكان الإسكندرية، يوحى بأن مياه النيل تنال فى هذا اليوم، قوة عجائبية خاصة تمنح الشفاء لكل من يستخدمها بسبب إلقاء جسد الإله أوزوريس فيها .
هذا وقد ذكرت بعض المراجع العلمية: إن بعض أماكن فى الشرق- فى هذه الفترة – كانوا يحتفلون بظهور ينابيع تُُُخرج نبيذ فيه قوة شافية.
كما كانت الإسكندرية تحتفل فى نفس اليوم بعيد ميلاد إله المدينة ” إيون ” ، وهو حسب اعتقادهم ابن العذراء ” كورى” وهى على وجه الترجيح الإلهة إيزيس.
ولكن الكنيسة أرادت أن تقضى على هذه المعتقدات الفاسدة، وعلى بدعة باسيليدس فى نفس الوقت، فاحتفلت فى يوم (6يناير) بعيد ظهور رب المجد يسوع وخصصت ليلة (5/6يناير) للاحتفال بذكرى الميلاد وزيارة المجوس، لكى تؤكد أن يسوع متحد باللاهوت، منذ اللحظة الأولى من الحبل البتولى به ، فى أحشاء العذراء القديسة الطاهرة مريم وليس فى العماد .
فى القرن الرابع، وبعد انتهاء اضطهاد الدولة الرومانية اهتم آباء الكنيسة بالدراسات اللاهوتية والتاريخية، فوجدوا أنفسهم فى حيرة عندما حاولوا تحديد تاريخ ميلاد السيد المسيح، لأنهم لم يهتموا بهذه المسألة من قبل، ويبدو أن البحث عن ميلاد المسيح قد بدأ قبل ذلك، لأننا فى مطلع (ق3) نرى القديس إكليمنضس يهزأ بالذين يتعبون دون جدوى فى البحث عن تاريخ ميلاد المسيح محاولين تحديده بالسنة واليوم.. ويعتبر أن هذه الحسابات مجرد افتراضات وتكهنات، وهكذا بقيت كنائس الشرق، تحتفل بذكرى ميلاد المسيح وعماده معاً فى يوم (6 يناير) حتى مطلع القرن الرابع.
ويبدو أن مصر وسوريا جعلتا ذكرى ميلاد المسيح هى الموضوع الرئيسى فى هذا العيد، ولذلك لم يتردد القديس إبيفانيوس فى نقل عيد عماد المسيح إلى يوم (6 نوفمبر).
أما أورشـليم فقد احتفظت بذكرى عماد السيد المسيح، كموضوع أساسى للعيد ولكنها أضافت إليها ذكرى الميلاد المجيد.
فى منتصف القرن الرابع، كانت روما تحتفل بعيد الميلاد فى(25 ديسمبر) كما يظهر فى التقويم الفيلوكالى.
وقد أشار القديس أُمبروسيوس أسقف ميلانو (ق4) إلى ذلك بقوله: ” إن المسيح هو شمسنا الجديدة “.
وحث القديس أُغسطينوس مسيحى إفريقيا الشمالية فى (ق5)، على السجود فى يوم (25 ديسمبر)، لا للشمس بل لخالق الشمس.
لكن كنيسة روما لم تكتفِِِِ بأن تعيّد لميلاد المسيح فى (25 ديسمبر) بل سعت إلى نشره فى الشرق أيضاً، فلُقيت الفكرة فى بادئ الأمر بعض الاعتراضات والمقاومات، لأن الآباء الشرقيين لم يهتموا قبل ذلك بهذه المسألة، ولكن مساعى كنيسة روما كُللت أخيراً بالنجاح.
وكانت أول كنيسة تبنت هذا التقويم الجديد، هى كنيسة أنطاكية سنة (375م) ، وذلك فى عهد القديس يوحنا ذهبى الفم- بطريرك القسطنتينية- الذى روى فى عظة ألقاها سنة (386م)، إن كنيسة انطاكية بدأت ممارسة عيد الميلاد منفرداً عن عيد الغطاس منذ (10 سنوات) فقط اعتماداً على مراسلات أجراها مع كنيسة روما، التى سبقت أنطاكية فى تحديد زمن العيد بوقت كبير.
يقول ذهبى الفم
” والحقيقة إنه لم يمضِِِِ حتى الآن سوى عشر سنوات، منذ أن تعرّفنا على هذا اليوم- يـوم الميلاد 25 ديسمبر- وبالرغم من ذلك ها هو قد ازدهر هذا اليوم وانتشر بسبب غيرتكم، وكأنه قد تُسلّم لنا منذ البدء، وهكذا لا يُخطئ الإنسان لو قال إن هذا العيد جديد وقديم معاً، جديد لأننا قد عرفناه حديثاً، وقديم لأنه هكذا اكتسب مساواة مع الأعياد القديمة.. وهذا اليوم كان معروفاً منذ البدء عند رجال الغرب، غير أنه وصلنا أخيراً منذ مدة وجيزة.. “
ثم حذت القسطنطينية حذو أنطاكية، ففى عام (380م) كانت القسطنطينية تحتفل بعيـد الميلاد فى (25 ديسمبر)، ونستدل على ذلك من عظة، ألقاها القديس غريغوريوس النزينزى بطريرك القسطنطينية، عن عيد الميلاد فى يوم (25ديسمبر) وعظة أُخرى عن الموضوع ذاته فى نفس اليوم من العام التالى
وفى عام (380 م) كانت كنائس قيصرية كبادوكية فى آسيا الصغرى، تحتفل هى أيضاً بعيد الميلاد المجيد فى يوم (25 ديسمبر)، ونجد الدليل على ذلك فى العظة التى أُلقيت فى نفس السنة، للقديس غريغوريوس النيسى أسقف نيسُس بتركيا (340- 400م)، وذلك لتأبين القديس باسيليوس الكبير أسقف قيصرية، فنراه يميز بوضوح بين عيد الميلاد وعيد الظهور الإلهى.
ومنذ عام (432م) كانت الإسكندرية تحتفل بعيد الميلاد فى (25 ديسمبر)، وقد كان هذا التقليد مجهولاً قبل ذلك الوقت لأن يوحنا كاسيان (360– 450م) يؤكد أن الكنيسة فى مصر كلها، كانت لا تزال فى أيامه تعيّد الميلاد والغطاس معاً فى عيد الإبيفانيا حيث تأتى كلمـة الإبيفانيا بصيغة الجمع، أى تشمل عدة ظهورات:
- الميلاد بالجسد .
- ظهور النجم للمجوس .
- استعلان بنوة المسيح لله فى العماد بصوت السماء.
- استعلان لاهوته بمعجزة قانا الجليل.
يذكر كاسيان هذا الخبر فى كتابه ” أحاديث الآباء” الذى يرجع إلى الفترة ما بين (411 – 427م) يقول فيه:
” وفى إقليم مصر، هذه العادة قديمة بالتقليد، حيث يُراعى أنه بعد عبور الإبيفانيا، التى يعتبرها الكهنة فى هذا الإقليم، الزمن الخاص بمعمودية الرب وأيضا ميلاده بالجسد، وهكذا يعيدون التذكارين معاً، ولا يعيدونهما منفصلين كما هو فى اقليم الغرب، ولكن فى عيد واحد فى هذا اليوم ” .
ولكننا نرى بولس أسقف إيميس سنة (432م) يُلقى عظة رائعة عن ميلاد السيد المسيح فى يوم (25 ديسمبر) بكنيسة الإسكندرية، فى حضور البابا كيرلس عامود الدين (400- 432م)، ومنها نستنتج أن هذا التقليد قد دخل إلى كنيسة الإسكندرية قبل ذلك بقليل، أى حوالى سنة (430م) قبل أن يغادر كاسيان مصر.
هذا وقد جاء فى المجلد الخامس من قاموس ” دتش ” القديم: إن عيد الميلاد قد أُدخل لأول مرة فى كنيسة الإسكندرية عام (430م) كما جاء فى القاموس الفرنسى ” لاروس ” القرن العشرين ج 5 ص97: إن الاحتفال بهذا العيد رسمياً فى كنيسة الإسكندرية، كان فى عام (430م) على وجه التقريب.
وفى دائرة المعارف الدينية والأخلاقية المجلد الثالث ص406 جاء ما يلى: ولا يمكن أن يُحدد بالضبط التاريخ الذى جُعل فيه يوم (25 ديسمبر) عيداً رسمياً للمسيح فى الكرسى الإسكندرى ولكنه يقع يقيناً فى الفترة (400–432م).
أما أورشليم فقد ظلت متمسكة بالتقليد القديم، أى تقيم العيدين معاً فى يوم (6 يناير)، ولكن المقاومة زالت أخيراً فى منتصف (ق5) والدليل الأكيد على ذلك: هو الموعظة التى ألقاها باسيليوس أسقف سلوقية فى يوم عيد القديس إسطفانوس، ونراه فيها يمدح يوفينال أسقف أورشليم، لأنه أول من احتفل بعيد ميلاد المسيح فى يوم (25 ديسمبر) فى كنيسة أورشليم، وكان يوفينال بطريركاً على أورشليم من (424– 458م).
حدث فى الجيل الرابع أن قامت القديسة إيثيريّة الراهبة – من جاليسيا – بزيارة إلى الأماكن المقدسة فى القدس، وقد ذكرت فى تاريخ زيارتها إنها حضرت عيد الغطاس فى القدس، حيث أُقيمت هناك احتفالات مبهجة إجلالاً لهذا العيد العظيم، وروت عما كان يُقام من الطقوس الجميلة، إذ قالت: ” إن أسقف القدس مع الشعب يطوفون هناك ، حاملين بأيديهم الصلبان والشموع، متنقلين فى زيارة الكنائس مدة 8 أيام ” .
بعد ذلك انتقل الاحتفال بعيد الميلاد فى (يوم5 ديسمبر) إلى سائر كنائس الشـرق، وقد قبلت كنائس بلاد ما بين النهرين هذا التقليد فى (ق14) فقط
واليوم لا يبقى سوى الكنيسة الأرمينية، فتحتفل فى يوم (6 يناير) بعيد ظهور الرب مقترناً بذكرى الميلاد، أى بعيدى الغطاس والميلاد معاً.
نستطيع أن نقول: إن كنيسة روما هى أصل نشأة عيد الميلاد، كما أن كنيسة الإسكندرية أصل نشأة عيد الغطاس، ولكن عيد الغطاس متقدم فى الزمن عن عيد الميلاد، إلا أنه كان مجهولاً فى الغرب، حتى بداية القرن الرابع.
ونجد الدليل على ذلك عند القديس أُغسطينوس، الذى يلوم أصحاب بدعة الدوناتيست وذلك لعدم احتفالهم بهذا العيد فى كنائس إفريقيا الشمالية، التى تتبع الطقس الرومانى، ومن هنا نستنتج أن عيد الظهور الإلهى قد دخل إلى كنائس الغرب، بعد انفصال أصحاب بدعة الدوناتيست عن الكنيسة الجامعة عام (313م).
ولكن من الأكيد أن هذا العيد كان موجوداً فى كنائس الغرب عام (361م)، وذلك لأن مارشيلينوس يذكر أن الإمبراطور يوليانوس الجاحد (361-363م)، قد حضر الاحتفال بعيد الإبيفانيا عام (361 م)، فى كنيسة فيينا (من أعمال فرنسا) وهذا يدل على أن عيد الظهور الإلهى كان من الأعياد الحافلة، التى يجتمع فيها المسيحيون بأبهة عظيمة، حتى إن يوليانوس مع كفره إضطر للحضور لئلا يرميه الشعب بالزندقة.
وفى عام (380م) يذكر مجمع سراجوسا هذا العيد ضمن الأعياد الكبرى التى ينص عليها القانون الرابع من قوانين المجمع.
وفى عام (400م)، أصدر الإمبراطورين أركاديوس (395-408م) وهونوريوس (395-423م) مرسوماً بمنع الألعاب فى يوم عيد ظهور الرب.. وأخيراً قرر الإمبراطور يوستينيانوس (527-565م) أن يجعل هذا اليوم عطلة رسمية.
وهكذا دخل عيد ظهور الرب كنائس الغرب، فى النصف الثانى من القرن الرابع، وأصبح عيداً رسمياً فى كل الكنائس منذ بداية القرن الخامس..
وعلى إثر هذا التبادل فى الأعياد، أصبحت الكنائس فى الشرق والغرب، تحتفل معاً بعيد ميلاد السيد المسيح فى يوم (25 ديسمبر) وبعيد الظهور الإلهى فى يوم (6يناير) منذ القرن الخامس الميلادى..
إلى أن قام البابا غريغوريوس بابا روما الثالث عشر (1572– 1585م) سنة (1582م) بتعديل التقويم.. فقد لاحظ وقوع الاعتدال الربيعى فى يوم (11 مارس) بدلاً من يوم (21 مارس) كما قرر مجمع نيقية.. إذن هناك فرق قدره 10 أيام !! فماذا فعل البابا لتلافى الخطأ ؟؟
لجأ أولاً إلى علماء اللاهوت، لكى يعرف منهم السبب، فأجابوه بأنه: ليس لديهم سبب سواء من الناحية الكنسية أو اللاهوتية، فالأمر مرجعه إلى الفلك.
فرجع البابا إلى علماء الفلك، فأعلموه بأن السبب يرجع لحساب السنة، فالسنة بحسب التقويم اليوليانى يبلغ طولها: (365 يوم + 6 ساعات) ، بينما السنة فى حقيقتها التى يقرها علماء الفلك (365يوم + 5 ساعات + 48 دقيقة + 46 ثانية) فأجرى تصحيحاً للتقويم، عُرف باسم التصحيح أو التعديل الغريغورى (نسبة لاسم البابا غريغوريوس)، يمكن أن نختصره فى نقطتين أساسيتين:
– فمن جهة الـ (10 أيام) الفرق ، تم حذفها بعد أن أصدر أمراً بأن ينام الناس يوم 4 أكتوبر سنة (1582م) وعندما يستيقظوا يعتبرون يومهم هو (15 أكتوبر) بدلاً من (5 أكتوبر).
– ولضمان فروق المستقبل وضع قاعدة عن طريقها يتم حذف (3 أيام) كل (400 سنة).
بعد أن إتبعت كنيسة روما والكنائس الغربية التقويم الغريغورى سنة (1582 م) اختلفت مواعيد الأعياد بين الكنائس..