بعد ان رتب وضعه بالكامل..وبعد تأجيلات عدة...سنحت الفرصة أخيرا..واتخذ
القرار بأنهاء حياته التعيسة..لم يفكر بزوجته واولاده..ولا بعمله او مسيرته
العلمية...كل ما كان يجول بخاطره انه لايستحق هكذا حياة..لانه لم يجد معنى
او جدوى من كل شيء...ولم تشبع كل مفردات الحياة الاجتماعية جوف ذاته..فقرر
انهاء معاناته التي يصعب عليه شرحها للناس ويصعب على اي احد ان يتفهمه..
متيقنا ان لا احد في العالم يمكن ان يكون أسوأ منه حالا لانه يمتلك كل
شيء..الا معنى وجوده...فأنتهز فرصة خروج زوجته مع الاولاد لبيت اهلها واتخذ
قراره نهار شتاء بارد جدا.. حين هيأ مستلزمات انتحاره...سمع دقات بائع
قناني الغاز وهو يطرق على قنينة صدأة فتصدر اصوات تؤذي السمع والنفس
والهواء..كانت قنينة الغاز الوحيدة التي يتملكونها قد فرغت فخطر له يختم
حياته بفعل جيد...فهرع الى باب منزله المتصدع فرأى عربة يجرها حصان ابيض
ويقود تلك العربة صبي لا يتجاوز عمره اثنتي عشر عاما.. نادى بائع القناني
الصغير... بعد ان انتبه اليه ذلك الصبي..نزل من عربته واخذ يضرب وجه الحصان
من كل جهة ...ظل الحال هكذا الى ان قاد ذلك الصبي الحصان الى الباب...
امسك الرجل بذلك الصبي من عنقه رافعا اياه من الارض وبيد واحدة واسنده الى
الجدار صارخا:لماذا ايها الغبي....ايها المغفل؟ لماذا تضرب الحصان ..وعلى
وجهه ؟ لقد تورمت وجنتي الحصان و سالت بعض الدماء ..يبدو انك تضربه كل يوم
على وجهه..لماذا؟ لماذا؟؟ حينها انتبه لنفسه...وكان تنفسه قويا وقلبه
يرتجف...ورأى ان الصبي كان متعبا جدا..بل كأنه مريض..ومتسخ جدا..حتى لا
يكاد ان يميز ملامحه...فأفلته ... صمت للحظة... سأله:من اية منطقة انت؟
أجابه الصبي انه من منطقة تبعد خمسة وعشرين كليومترا عن هذه المنطقة...فقال
له:وهل اتيت انت والحصان من تلك المنطقة؟..أومأ الصبي بنعم...منذ متى وانت
تعمل بهذه المهنة؟ اجابه :منذ خمسة اعوام...فقال:يعني كنت اصغر من الان
بكثير..فأجابه:لاادري...نعم..
عندئذ سأله بصوت ابوي:لماذا يا ولدي تضرب الحصان على وجهه؟ فقال الصبي دون
تردد وكأنه اراد الاجابة منذ البداية:هذا الحصان ورثته من ابي الذي كان
يعمل بهذه المهنة...وانا اكبر اخوتي الصغار وليس لنا معيل سواه..وبعد ان
مات ابي بحادث سيارة دهسته حين كان جوار العربة ...لا اعرف ما اصاب
الحصان...كل الذي اعرفه انه اصبح اعمى ..ولايرى ابدا ومنذ ذلك الحين اخذت
بضربه على وجهه كي يفهم الجهة التي اريد ان يتوجه اليها...
جلس صاحبنا على الارض وبدأ يتأمل الصبي ..والحصان...صبي متعب مريض مرهق
يعيل منذ نعومة اظافره اسرة كاملة....وحصان اعمى يقطع كل يوم خمسة وعشرين
كليومترا دون ان يرى شيئا..وكلاهما يعملان معا في مهنة مرهقة لاتوفر الا
الحد الادنى من حياة البقاء..
وهو غارق في تأملاته...رتب الصبي ملابسه المنكمشة ..وبادر بسؤاله:سيدي كم
قنينة تريد ؟ لاتنسى يا سيدي ان الاسعار ارتفعت كثيرا بسبب ازمة الغاز
وموجة البرد القارص...ها..كم قنينة تريد؟
استغرب الصبي من منظر الدموع المنسكبة من عيون صاحب البيت...
سأله صاحب البيت: كم تجني من نقود في اليوم كله؟اجابه الصبي:ليس كل يوم مثل
غيره وذلك بحسب الطلب والمنطقة التي استطيع الوصول اليها..لكن تقريبا
اجني..خمسة وعشرين الفا...واعمل منذ الفجر والى غروب الشمس...فقال له صاحب
البيت:انزل لي قنينة واحدة وخذ هذه الفارغة معك...سادخل للبيت وآتي لك
بالنقود...... سلم الى الصبي خمسين الفا...وقال له :عد الان الى
بيتك...وارتح انت والحصان...فأستغرب الصبي جدا...ووفرح فرحا شديدا...وشكر
الرجل وذهب مسرعا...... دخل الرجل الى البيت...ورأى الحبل معلقا في المروحة
السقفية...والكرسي الموضوع تحتها...وورقة قد كتب فيها اخر كلماته ملصوقة
على باب الثلاجة....فأبتسم مستهزءأ...واشعل سيجارة.