اولا :- أ) الخلق
نحن نؤمن أن الثالوث القدوس هو الخالق، وأن الأقانيم الثلاثة يعملون معاً مع تمايز دور كل أقنوم في عملهم الواحد. فالسيد المسيح يقول "مهما عمل ذاك (أى الآب) فهذا يعمله الابن كذلك" (يو5: 19). ومثلما قيل في المزمور "بكلمة الرب صنعت السماوات وبنسمة فيه كل جنودها" (مز33: 6) وهذا معناه أن الآب قد خلق السماوات ومن فيها بكلمته وبروحه القدوس. وفي سفر التكوين كُتِب "فى البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور" (تك 1:1- 3). ويلاحظ اشتراك الروح القدس والكلمة مع الآب في خلق السماوات والأرض في اليوم الأول للخلق، وبالتالى باقى أيام الخليقة الستة.
ومعلوم طبعاً أن الله الكلمة الابن الوحيد قد كُتب عنه "كل شىء به كان وبغيره لم يكن شىء مما كان" (يو1: 3). وقيل عنه أيضاً : "فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق الذي هو قبل كل شىء وفيه يقوم الكل" (كو 1 : 16، 17). فقد ورد في الأسفار المقدسة الكثير مما يثبت أن الابن هو خالق أيضاً مثل الآب. وكما نقول فى القداس الغريغورى : "المساوى والجليس والخالق الشريك مع الآب" والمقصود بعبارة "الخالق الشريك" هو اشتراك الابن مع الآب في الخلق.
وورد في سفر أيوب: "روح الله صنعنى ونسمه القدير أحيتنى" (أى33: 4). وقد جاء ذلك على لسان أليهو بن برخائيل الذي تكلم الكلام الصحيح بعد أن أخطأ أصحاب أيوب الثلاثة في كلامهم، وأجابهم أيوب بكلام لم يرض الله عنه، كما لم يرض عن كلامهم، فصحح أليهو للجميع فى النهاية بكلام قبله الله ولم يعترض عليه.[1] وأيضاً ورد في نفس السفر: "ولكن في الناس روحاً ونسمة القدير تعقّلهم" (أى32: 8). وهذه الأقوال تعنى أن الروح القدس خلق الإنسان ومنحه الحياة وخلق فيه الروح العاقل لأنه يقول "نسمة القدير تعقلهم".
ونحن نقول عن الروح القدس في قانون الايمان أنه "الرب المحيى". ونقول في صلاة الساعة الثالثة أنه "كنز الصالحات معطى الحياة" (القطعة الرابعة). إذن نحن نؤمن أن الروح القدس هو الذي يمنح الحياة للكائنات الحية. فهو مانح الحياة ورازق الحياة ومعطى الحياة.
ب) الخلاص:
أما بالنسبة للخلاص فإن الخلاص ليس هو عمل الابن وحده، بل هو عمل الأقانيم الثلاثة، وإن كان كل أقنوم له دور متمايز عن الآخر في عمل الخلاص. وقال معلمنا بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين "المسيح الذي بروح أزلى قدَّم نفسه لله بلا عيب" (عب 9: 14). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). أى أن الابن قدَّم نفسه ذبيحة لله الآب بالروح القدس. وبهذا نرى أن الله الآب كان " فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه" (2كو5: 19). وفي ألحان الكنيسة وتسابيحها وصلواتها نقول عن الابن المتجسد "هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا، فاشتّمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة"
ج) عند نهر الأردن:
وفى نهر الأردن كان الابن في المياه يؤسس المعمودية المقدسة، والآب إذ انفتحت السموات يقول "هذا هو ابنى الحبيب الذي به سررت" (مت3: 17)، والروح القدس آتياً ومستقراً على الابن المتجسد بهيئة جسمية مثل حمامة.
د) التجسد:
وفى التجسد كوَّن الروح القدس ناسوتاً للابن ليتحد به اتحاداً أقنومياً (أى اتحاد لاهوت الابن بناسوته) في نفس لحظة تكوين ناسوت الابن. كما قدّس مستودع العذراء مريم.
وقال الابن في المزمور الأربعين واقتبسها أيضاً القديس بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين "ذبيحة وقرباناً لم تُرِد ولكن هيأت لى جسداً. بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر. ثم قلت هأنذا أجيئ في درج الكتاب مكتوب عنى لأفعل مشيئتك يا الله" (عب10: 5–7). وقد اقتبس القديس بولس هذا النص من الترجمة السبعينية Septuagint.
الابن هنا يقول للآب إنك لم تسر بذبائح العهد القديم، وقد جئت لأصنع مشيئتك وأقدم جسدى ذبيحة مقبولة تسر أنت بها، وأنت الذي هيأت لى هذا الجسد (مقصود طبعاً الناسوت الكامل جسداً وروحاً عاقلاً). وهنا نلاحظ أن تكوين جسد يسوع منسوب إلى الآب وليس إلى الروح القدس وحده، وأيضاً قيل أن "الذى حبل به فيها هو من الروح القدس" (مت1 : 20). فهل الروح القدس هو الذي هيأ الجسد أم الآب؟ لا نستطيع أن نفصل. إن الروح القدس هو الذي كوّن الناسوت بما في ذلك الجسد في بطن العذراء، ولكنه كوّنه بقدرةٍ إلهية هي من الآب بالابن في الروح القدس كما قال الآباء.
ولذلك قال القديس كيرلس الكبير إن الله الكلمة قد كون لنفسه ناسوتاً من بطن العذراء مريم بواسطة الروح القدس[2] وهذا يتفق تماماً مع ما أوردناه، ويتفق أيضاً مع ما قاله السيد المسيح أن كل ما يعمله الآب يعمله الابن أيضاً "لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" ( يو5 : 19). وقال أيضاً "أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو5: 17).
هـ) الجلجثة:
مثلاً في الجلجثة الابن كان يقدم نفسه للآب، فكان لابد أن يشتَّم الآب هذه الذبيحة رائحة سرور ورضا ويتنسم نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة (كما قال بولس الرسول لأهل فيلبى عن التقدمات التي قدموها له). لو غاب الآب عن المشهد، فمن الذي يقدم الابن نفسه له؟
لتقريب المفهوم نقول أن الآب هنا أخذ دور الديان بأنه هو الذي يأخذ للعدل الإلهى حقه، مع أن العدل الإلهى هو في الآب والابن والروح القدس، لكن لكى ينفع العمل لابد أن يأخذ واحد دور الذبيح أو الشفيع والآخر يأخذ دور الديان الذي يتقبل الذبيحة كترضية للعدل الإلهى. هنا العمل واحد وهو الخلاص، لكن للآب دور لا يستطيع أن يغيب عنه وكذلك الابن وأيضاً الروح القدس. ومن خلال الطقس تشرح لنا الكنيسة هذه العقيدة ببساطة وبطريقة محببة وسهلة الاستيعاب، فنقول في اللحن "هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة".
و) الحياة والعطايا:
كل شيء في الوجود هو من الآب بالابن في الروح القدس حتى الحياة نفسها. صحيح أن الروح القدس هو مانح الحياة لكن الحياة أصلها في الآب، كما قال الآباء أن كل عطية وكل طاقة أصلها في الآب وتتحقق من خلال الابن في الروح القدس أو بواسطته. الجوهر واحد وتخرج منه طاقة وقدرة، وهي لا تخرج من الآب وحده أو الابن وحده ولا الروح القدس وحده. هي صادرة من الثالوث لكن كل أقنوم يؤدى دور معين حتى تتحقق هذه القدرة.