ليتك تشقّ السماء وتنزل! (أشعيا 64: 1)
أهو من الخوف والحرمان واليأس تضرّعٌ إلى كائن من خيال،
أو من الضعف والألم والموت ارتماءٌ في وهم من الأحضان؟
أم هو من أعماق الكيان اندفاعٌ،
بل حاجةٌ إلى كائن مطلق وحق،
إلى الله خالق الإنسان؟
نظرتان تأرجحَ ولمّا يزَل بينهما الإنسان...
إلاّ أنّ الميلاد في ذكراه كلّ عام يعود ويشهد:
إن الله كائن،
وإنّ الإنسان كيانُه في التفاتة،
وحياتُه في شوق دائم إلى ذلك الكائن.
"كما يشتاق الأيِّلُ إلى مجاري المياه كذلك تشتاق نفسي إليك يا رب."
إنّ الشوق إلى الله ليس أمراً مضافاً إلى كيان الإنسان،
إنّمَا ذلك الشوق هو عين هذا الكيان.
والإنسان إنْ نحن حدّدناه قلنا: كائن في حاجة إلى الله.
لذلك فهو دائماً في تطلّع وترقّب وانتظار لوجهه تعالى:
"كما أنّ عيون العبيد إلى أيدي مواليهم، هكذا عيوننا إلى الربّ إلهنا..."،
"انتظار الرقباء للصبح والحراس للفجر فلينتظر إسرائيل الرب"...
فالإنسان، إن عاش، فمن الأمل بلقاء الله يعيش؛
يترقّب ظهوره ويترصّد رَوحاته وغدواته،
ينتظر مجيئه ويتعقّب تنقّلاته وتحرّكاته،
يستقرئ الكون وما فيه عن أحكامه وشرائعه،
ويسأل الأحداث وسَيْرَها عن تدابيره ومقاصده...
ويبدو أنّ الله نفسه لا يقلّ شوقاً عن الإنسان لملافاته؛
نراه دوماً في بحث متواصل عمّا جبلت يداه وصنع حبّه.
وإن كان البعض يستهجن ذلك في الله أو ينكرونه عليه أو يجلّونه عنه،
فالله لا يستحيي بحبّه بل يسعى بدأب وسهر إلى حبيبه.
أوَلم بشبه حبَّه بحبّ الزوج يحنّ لزوجته، والأم ترضع طفلها والأب يحنو على ولده؟
أوَلم يصف نفسه بالأب يتطلّع كلّ يوم إلى البعيد
يترقّب وينتظر لهفاً رجوع ابنه والأحشاء منه تضطرم؟
أوَلم يتخطَّ كل الأعراف والمفاهيم ويجزم:
إنّ الله محبّة؟
فهل هذا الحبّ، وإن في الله، إلاّ تطلُّع إلى الإنسان، بل شوق، بل حاجة؟
وكان الميلاد شهادة على شوق الله هذا،
بل كان الميلاد أكثر من شهادة،
تجسيداً لكيان في الله وحياةٍ جديدة هو اختارهما:
الله هو إله الإنسان، مع الإنسان، إلى الأبد،
وليس الله إلهاً على ذاته وفي ذاته ولذاته...
ومنذ الليلة تلك أصبح الميلاد ذكرى لقاء بين شوقين،
شوق البشرية لحضور المسيح الإله على الأرض،
وشوقِ الله للمبيت بين أبنائه البشر؛ وأضحى الميلاد سكنى الله والبشر في منزل واحد معاً،
في مغارة واحدة،
منها يشع الخلاص والسلام والمصالحة والفرح.
إنْ كان الميلاد لقاء الله والبشر في شوق كل منهما،
فإنّ الميلاد كذلك لقاء البشر بعضهم بعضاً في شوق كلٍّ منهم إلى الله.
إنّ المسيح، في الميلاد، استقطب البشر المشتّتين بتحاذرهم وتنافرهم وتباغضهم،
ولَمَّ شملهم المبعثر تحت سقف محبته وتواضعه وعطائه وفدائه؛
وفي الميلاد ارتضى المسيح أن يكون لقاء الإنسان مرادفا للقاء الله...
ومن ذلك اليوم، فإنّ كلّ تطلّع أو ارتفاع إلى الله، إنْ كان يتمّ في هيكلٍ ما،
فإنّ الإنسان هو خير هيكل بل قدس نرتقي فيه إلى الله؛
ومن تلك الليلة، فإنّ لقاء الله والإنسان، إنْ تمَّ مرّة واحدة في مغارة بيت لحم،
فإنّ كلّ إنسان هو أوسع ما في المغاور وأجمل، فيه نلاقي الله كل يوم ونصل شوقنا بشوقه؛ ومن تلك الساعة، فإنّ تطلّع الإنسان، إن كان باتجاه واحد، بشري أو إلهي،
فقد أمسى تطلّعاً وشوقاً إلى اثنين، الله والإنسان،
وأضحت الحاجة في الإنسان إلى اثنين، الله والإنسان.
وإنّ الميلاد هو أكثر من كل ذلك،
إنّه الحدث- المركز الذي يجتمع الكون فيه فيتوحّد وتزول الفوارق،
"فيسكن الذئب مع الحمل ويربض النمر مع الجدي،
"ويكون العجل والشبل والمعلوف معاً وصبيٌّ صغير يسوقها،
"وترعى البقرة والدبّ معاً ويربض أولادهما معاً، والأسد يأكل التبن كالثور،
"ويلعب المرضَع على حُجر الأفعى ويضع الفطيم يده في نفق الأرقم". (أشعيا 11: 6- 8).
في الإله المولود طفلاً تتصل ألف الكون بيائه، بدايته وخاتمتُه وما بينهما،
وفيه تتمّ وحدة الكون الشاملة، "ما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض"،
فيصبح كلّ شيء في الميلاد شاهداً على حضور المسيح ومشيراً إليه...
وفي هذه الذكرى تطلّ كل عام، نتذكّر ونتعلّم
أن ننطلّع إلى المسيح من خلال كل شيء في هذا الكون،
وأن نترصّد حضور المسيح في كل حدث من أحداث هذا العالم،
وأن نتلمّس وجه المسيح في كل امرئ يحيا على هذه الأرض،
وأن نذكي الشوق إلى المسيح في قلبنا، إن خمد، ونصرخ:
"أُقطري أيتها السماوات من فوق ولتمطر الغيوم الصدّيق". (أشعيا 45: 8).