العذراء هنا!!
قالها، وقد تشابكت كفه بكفه الأخرى فوق صدره .
العذراء هنا!!
واندهش كل من تحلّق حول سريره الذي يصارع لحظات الاحتضار الأخيرة ... شيء ما دب في أجساد الحاضرين، شيء سرى في أجساد رهبان وراهبات حضروا في لحظة الموت التي دنت من جسد كان عصفوراً يغرّد مطمئناً إلى جناحيه اللذين بسطهما على آلاف الشبان الذين انتقلوا من جحيم الشقاء والألم إلى جنة الفرح والسعادة .
في اللحظات الأخيرة التي نثرت وقارها وسكونها في تلك الغرفة التي استلقى فيها الجسد الكهنوتي، وحول ذاك السرير، وقف شاب ينظر بألم وحزن إلى الجسد الذي ينبض حياة وموتاً، تذكر يوم رآه ذاك الكاهن على قارعة الطريق يعاني ضياعاً ومرارة، تذكر يوم أمسك بيده طالباً منه الذهاب معه إلى المصلى، وكان الفرح هناك قاب قوسين أو أدنى من أحلامه... تذكر أعماله الخيرية التي كان يراها بأم عينه، تذكر حين قال له ذات مرة:
"حين كنت في التاسعة من عمري، وفي ساحة كبيرة في القرية، رأيت حشداً من الفتيان يشتمون بعضهم، فحاولت إسكاتهم بالقوة، لكن نوراً عظيماً ظهر لي فجأة قائلاً:
(ليس بالضرب بل بالوداعة والمحبة عليك أن تجعل منهم قديسين) لكنني قلت له: أنا طفل صغير، إلا أن النور الباهر أجابني : (العذراء سوف ترشدك وتساعدك وتعلمك الطريق) . ومذاك الزمن وأنا أنمو على حب الله والتعلق بأمي العذراء مريم" .
جال الشاب بنظره في تلك الغرفة باحثاً عن الهالة النورانية، فتراءت له من زاوية في الغرفة، تنضح بالبشر والنور اللامحدود، ثوبها الأبيض الطويل حتى أخمص قدميها يشع وجوداً عظيماً... ابتسم لها فاقتربت من الجسد الملقى على السرير، أمسكت بيد الكاهن؛ لتغيب في لحظة غير مرئية، حاملة معها روحاً لم تكن لتفارقها البتة.
في المصلى وفي الكنائس والبيوت والمدارس والمعامل التي حملت اسم ذاك الكاهن، كان الشباب في حالة حزن وبؤس خيمت عليهم من دون أن يعرفوا مصدرها ... وفي ركن من أركان منزل كان هناك شاب يمد يده مصافحاً السيدة العذراء، وفي الحديقة المجاورة لذاك المنزل، كانت هناك زهرة تفتحت لتوها، ناشرة فوح عطرها في أجواء المكان وناثرة ثمرة فرحها في قلب كل من مر بجانبها ولامس ندى وريقاتها ....
وفي مكان لم يره أحد من بني البشر، في مكان يعوم في فضاء واسع، مامن صوت فيه أو شكل أو قرع ناقوس كنيسة، كان الكاهن نائماً نومته الأبدية، يشع نوراً وسلاماً، بيد أن صوته الأرضي لم يكن لينام أبداً .