حاولت خلال هذه الدراسة الموجزة عرض الأفكار الفلسفية لعدد من الباحثين الفيزيائيين الذين اهتموا بالحكمة القديمة ووجدوا قرابة بين الأبحاث العلمية الحديثة ونتائجها الفلسفية والتجربة الروحية التي تحققت عبر الأزمنة. ولعل هذا العرض يُبرِز لنا، في النهاية، أساس الحوار المعرفي الحقيقي الذي يدور حول طبيعة الوجود وعلاقة الإنسان به. وقد حاولت التركيز على هذه الناحية فيما يتعلق برؤيا الوحدة والكلِّية في كوننا، ولم أهتم لتفاصيل المقارنات التي قد لا تنتهي والتي قد لا تصح جميعًا بين الفيزياء الحديثة والحكمة القديمة.
ولعل زملاء نيكولسكو في مركز البحث العلمي الوطني يتساءلون حول العديد من المقارنات التي يقدِّمها ضمن رؤيته الصوفية؛ لكننا، مع ذلك، نثمِّن جرأته على طرح هذه الأفكار من موقعه كعالِم، وإن لم تكتسِ أحيانًا بالمنطق العلمي. وإننا، بدورنا، نسأل زملاء نيكولسكو إذا كانوا قانعين داخليًّا بانغلاقهم وبجمود منطقهم؟ وبالمقابل، نجد أن أفكار بوهم وشرودنغر أكثر ترابطًا ومنطقية ضمن مفهوم العقلانية الجديدة التي يناديان بها. ولسنا نشك أبدًا في أن هذا الحوار المعرفي لا يزال في بداياته وأنه لن ينتهي عند نقطة انفصال.
في إحدى المقابلات طُرِحَ على فريتيوف كابرا السؤال التالي: "إن النظريات العلمية تتغيَّر باستمرار، في حين أن الرؤيا الصوفية تبقى نفسها. ففيمَ إذن أهمية مقارناتكم؟" يعكس هذا السؤال الشكَّ في جدوى هذه المقارنات، كما يمكن لبعضهم أن يعتقد. وكان جواب كابرا على النحو التالي: "بلى، إن العلم يعرف أنه لا يملك حاليًّا الإجابات الصحيحة [...]. لكن يجب أن نعرف أننا عندما نضع هذه النظريات، عبر مراحل متتالية مع نماذج جديدة، فإن المعرفة لا تتغير تعسفيًّا، والنظرية الجديدة لا تنسف سابقتها نسفًا كاملاً. كذلك فإن وحدة الطبيعة الجوهرية وسمة تماسك الكون والطبيعة الديناميَّة لهذه الظاهرات لن تنسفها الأبحاثُ المستقبلية."[54]
كذا يمكننا القول، مع فريتيوف كابرا، أن مستقبل هذا الحوار واعدٌ ومشرق. وعلينا أن نثق في النهاية بقيمة التجربة الإنسانية. إن مسألة الآلية الكونية هي جوهر هذا الحوار العلمي–المعرفي. وفي حين كان ديفِد بوهم يصوِّر عالَم القسيمات كعالَم حيٍّ، كان عالم البيولوجيا جاك مونود J. Monod يقلص الحيَّ إلى آلية حيوية–كيميائية حصرًا. وقد نشر برنار دسبانيا لدى صدور كتاب مونود الصدفة والضرورة بحثًا بعنوان "فيزيائي يردُّ على جاك مونود"، جاء فيه: "لا شك أن بإمكاننا أن نحلم بعلم موضوعي، لكن نظرية بِلْ بخاصة تجبرنا على تغيير نظرتنا. فإذا كانت الميكانيكا الكوانتية صحيحة قطعًا فهذا يستجرُّ عدم كفاية كلِّ فلسفة طبيعية ذات قاعدة ميكانيكية ذرية."[55]
يمكننا، بالتالي، أن نلاحظ بسهولة نقطة الافتراق الحاسمة في هذا الحوار، أو فلنقل نقطة التحول التي يمرُّ بها العلم. إن الإنسان قادر اليوم على الاتصال بالأرض كلِّها، وعلى تعديل برنامجه الوراثي، وباختصار، كما يكتب نيكولسكو: "إننا نقف على نقطة افتراق طريقين بين التدمير الذاتي والتطور." وبلغة تيار دُهْ شاردان يقرِّر نيكولسكو أن هذا التطور لا يرتبط أبدًا بالتطور الفيزيائي–الكيميائي، بل هو يتم "على مستوى آخر، هو مستوى الثقافة والوعي أو الإنسانية بما هي اتحاد لجميع البشر"[56].
إن الفيزياء الحديثة، والعلم الحديث بعامة، بحاجة ماسة إلى هذه النفحات الروحية، ليس فقط على صعيد إعادة التوازن الأخلاقي لحياتنا، بل وحتى على صعيد مفاهيمنا المعرفية. إننا أحوج ما نكون اليوم لإعادة الصلة مع حقيقة أنفسنا، ولإعادة إيماننا بوحدة الكون وبوحدتنا معه. وإن كنا غير قادرين على وصف الحقيقة كاملة، بل وإن كان يتعذر أن نصف المطلق يومًا، لكن ذلك لا يمنعنا من احترام تجربة الإنسان الروحية والنفسية على مدى العصور، وبخاصة أنها كانت تخلص دائمًا إلى وحدة الإنسان والعالم. في أوبنشاد برهادارانياكا، وهي أشهر وأقدم وأطول أوبنشاد – وتعني "كتاب الغابة العظيم"، وقد اشتهرت بفكرة "نيتي نيتي"، أي "لا هذا ولا ذاك"[57] (وهي العقيدة الصوفية التي تقر بعدم إمكانية وصف المطلق) – نجد التصريح التالي: "لا يوجد في العالم تنوع."[58]
إننا نحيا في محيط من الطاقة الواحدة والكلِّية. لكن السؤال الذي يراودنا باستمرار، كما يقول بيير داكو: "ماذا يوجد في أعماق هذه الطاقة العظيمة، وفي باطن الارتجاجات الهائلة لهذه القسيمات الأولية التي تنقلب الواحدة منها إلى الأخرى؟ أهي الطاقة الصرف أم العدم؟" إن هذا يذكِّرنا بفكرة بوهم: "لن تتكشف أبدًا القوانين الفيزيائية الأولية بعلم يحاول أن يحطم العالم ومكوناته!" ترى، وراء ماذا نسعى من هذا التحطيم المحموم؟ ويعلِّق داكو مجددًا: "بلى، إننا نسعى وراء شيء غير المادة."[59] ويأتينا، مرة أخرى، تصريح أوبنشاد برهادارانياكا: "لا يوجد في العالم تنوع"، بينما تتردد في أذهاننا حكمة أوبنشاد مايتريي: "الإنسان يصبح ما يفكر فيه – ذلكم هو السر الأبدي!"
*** *** ***
تنضيد: نبيل سلامة
[1] إنجيل متى 5: 49.
[2] "تلاقي الكون" هي إحدى العبارات المفاتيح في رؤيا تيار دُهْ شاردان للعالم. راجع مؤلَّفه ظاهرة الإنسان ومؤلَّفاته التالية. كذلك انظر رسالته:
P. Teilhard de Chardin, Lettres de Voyages, 1923- 1955, FM, La Découverte, Paris, 1982 ; p. 398.
[3] يؤكد ندره اليازجي على أن الحكمة القديمة تراجعت في العصور الغابرة إلى الفلسفة وأن العلم الحديث هو عودة إلى الحكمة. راجع دراسته "الحكمة القديمة والعلم الحديث"، الكاتب العربي، عدد 12، 1985.
[4] P.Thuiller, « La mécanique quantique va-t-elle ré-enchanter le monde ? », La Recherche, N° 215, 1989 ; p. 1411.
[5] فيرنر هايزنبرغ، فيزياء وفلسفة: ثورة في الفيزياء المعاصرة، بترجمة د. أدهم السمان، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1984؛ ص 197.
[6] المرجع السابق، ص 194.
[7] مرجع الهامش 4، ص 1415.
[8] ندوة السوربون "نحو عقلانية جديدة"، تغطية ومشاركة سمير كوسا، الصفر، عدد 10، شباط 1987؛ ص 42.
[9] F. Capra, Le Tao de la physique, Tchou, Paris, 1979.
راجع أيضًا مرجع الهامش 4، ص 1411.
[10] راجع أعمال هذا المؤتمر الصادرة عن دار Stock، باريس، بعنوان العلم والوعي Science et conscience.
[11] راجع كتاب العلم يواجه تخوم المعرفة، مراجعة سمير كوسا، الصفر، عدد 17، أيلول 1987؛ ص 28. وللاستزادة حول هذا الموضوع راجع: "مؤتمر البندقية" Colloque de Venise، الصادر عن منشورات اليونسكو، باريس، و"تصريح البندقية" La Déclaration de Venise، دار Félin، باريس.
[12] كانت مشكلة التعيُّن والاحتمالية هي التي أثارت الجدل الشهير بين بوهر وأينشتاين في الثلاثينات. وقد طرح كلٌّ من أينشتاين وبودولسكي Podolsky وروزن Rosen تجربة فكرية لإظهار استحالة التوفيق بين التخمينات الكوانتية والمفاهيم الكلاسيكية الاستنتاجية للحتمية، وبشكل خاص للتعيُّن. وقد أدى ذلك إلى إدخال مفهوم جديد في الميكانيكا الكوانتية هو اللاتعيُّن indetermination الجوهري، حين ترتبط ظاهرات غير متصلة سببيًّا بعضها مع بعض. وفي العام 1965 بيَّن بِلْ أن أية نظرية محلية، ذات متحولات من النمط الكلاسيكي، لن تستطيع إيجاد نتائج النظرية الكوانتية عينها. وفي العام 1982 تم برهان ذلك على يد آلان أسبيه، ثم العديدين من بعده، في تجارب حاسمة ودقيقة، مجسِّمة فكرة التجربة المعروفة بمفارقة أينشتاين برودلسكي روزن EPR.
[13] مرجع الهامش 4، ص 1410. راجع أيضًا: أ. شيموني، "حقيقة العالم الكمومي"، مجلة العلوم الكويتية، المجلد 6، عدد 5، أيار 1989؛ ص 84. ويفصل المقال في التجارب التي بيَّنت أن كائنين تفصل بينهما عدة أمتار ولا يملكان أية وسيلة اتصال بينهما يمكن أن يشتبكا معًا؛ أي أن سلوك كلٍّ منهما مرتبط بسلوك الآخر، مما يجعل أية عملية قياس نجريها على أحدهما تؤثر آنيًّا في نتيجة القياس التي نجريها على الآخر.
[14] D. Bohm, La danse de l’esprit, Éd. Séveyrat, 1985.
والعنوان الأصلي للكتاب هو: The Unfolding Meaning.
[15] المرجع السابق نفسه. انظر أيضًا مرجع الهامش 4، ص 1411.
[16] مرجع الهامش 4، ص 1411.
[17] مرجع الهامش 14، ص 36.
[18] مرجع الهامش 14، ص 24.
[19] Lao-tseu, Tao tö king, Gallimard, 1967.
[20] مرجع الهامش 4، ص 1411.
[21] مرجع الهامش 19.
[22] D. Bohm, « La relation Esprit-Matière », 3e millénaire, N° 21, 1991.
[23] مرجع الهامش 14، ص 99.
[24] مرجع الهامش 14، ص 117–119.
[25] مرجع الهامش 4، ص 1412.
[26] سرفبالي رادهاكرشنان وتشارلز مور، الفكر الفلسفي الهندي، بترجمة ندره اليازجي، دار اليقظة العربية، دمشق، 1967؛ ص 174.
[27] B. Nicolescu, La science, le sens et l’évolution, Éd. du Félin.
[28] من "أناشيد إلى الله" (التعددية، إلى أندرا)، عن غريفث، مرجع الهامش 26، ص 29.
[29] التيرب هو التراب الذي تزيد فيه نسبة المواد العضوية عن 50%، أي أنه تربة خصبة.
[30] مرجع الهامش 27، ص 34.
[31] مرجع الهامش 4، ص 1413.
[32] مرجع الهامش 4، ص 1413.
[33] مرجع الهامش 22.
[34] E.Schrödinger, Ma conception du monde: Du Veda d’un physicien, Mercure de France, Le Mail, 1982 ; p. 156.
[35] المرجع السابق نفسه.
[36] Fritjof Capra, « Vers une nouvelle vision du monde », Entretien de Coussa, Le Lotus Bleu, N° 4, 1989.
[37] "نقطة أوميغا" Ω، في مفهوم تيار دُهْ شاردان، هي القطب الروحي الذي تسعى البشرية إلى الاتحاد به عبر تطورها.
[38] مرجع الهامش 36.
[39] مرجع الهامش 34، ص 29.
[40] مرجع الهامش 34، ص 39.
[41] مرجع الهامش 26، ص 426.
[42] مرجع الهامش 34، ص 42.
[43] مرجع الهامش 34، ص 43.
[44] مرجع الهامش 34، ص 44.
[45] د. بوهم، "هذا الخوف"، الصفر، عدد 17، ص 93.
[46] مرجع الهامش 34، ص 44.
[47] مرجع الهامش 45.
[48] Philipe Kapleau, Les trois piliers du zen, Appendice : « L’être et le temps selon Dogen », Stock+plus, 980 ; p. 277.
[49] Krishnamurti, La première et dernière liberté, Stock+Plus, 1979 ; p. 316.
[50] المرجع السابق، ص 378.
[51] مرجع الهامش 27، ص 136.
[52] مرجع الهامش 19.
[53] مرجع الهامش 19.
[54] مرجع الهامش 36.
[55] مرجع الهامش 4، ص 1414.
[56] مرجع الهامش 4، ص 1413.
[57] مرجع الهامش 26، ص 126.
[58] مرجع الهامش 26، ص 138.
[59] بيير داكو، علم النفس الجديد وطرقه المدهشة، بترجمة وتقديم سامي علام، دار الغربال، دمشق، 1990؛ ص 232 يتبع .....