من هذه المظاهر التي استعرضناها والتي تميز حياة الإنسان المعاصر، نكتشف أن الإنسان اليوم أكثر مما سبق، يتخطى وضعه الذاتي Autotranscendance ويريد أن يرتفع بذاته دوماً نحو الأمام، نحو الأكثر، ونحو الأفضل فهو في حالة تغير وتحول مستمر. ولقد توقف الفلاسفة والمفكرين طويلا عند هذا الميل في الإنسان، وهذه النزعة تمثل إنسانيته الناضجة، فمن الفلاسفة مَن رأى أن الإنسان يتخطى وضعه الذاتي ليحقق ذاته بشكل أكمل، ومنهم من رأى أن الإنسان يتخطى وضعه الذاتي ليحقق مجتمعاً أكمل، ومنهم من رأى في تخطي الإنسان لوضعه الذاتي إنشدادٌ وتحقيق لذاته الإنسانية في الله.. وسنعالج هذه النقاط فيما يلي:
1- التفسير المتمحور في الذات:
قلنا أن الطبيعة الإنسانية العاقلة تتميز بتخطي الذات، فالإنسان مشدود نحو تحرير نفسه من عبودية الجهل، والخطأ، والخوف، والميول. لكن هذا الجهد لتخطي الذات لا يعني انه خروج من الذات وتحول إلى شخص آخر. فان دافع الإنسان لتخطي ذاته يحدو الإنسان للحصول على وجود اكثر حقيقية، وليصل إلى تحقيق أغنى وأكمل لذاته ولإمكانياته.
فالإنسان يحاول الحصول على مستوى أفضل من المعرفة، ومن الثقافة الحضارية، والرفاهية، لكن دون أن يرمي في البحر ما كان يعرفه وتعلمه، وما يستطيع فعله وما يمتلكه. إن تخطي الذات ليست تضحية بالنفس لكي نربح شيئا آخر: إنها بالأحرى وقبل كل شيء بحثٌ لأجل شخصية أكثر كمالاً.
إن المفكرين الوجوديين أمثال نيتشه Nietzsche وسارتر Sartre وهيدغر Heidegger ، يقولون أن الإنسان يستطيع تخطي ذاته بقواه الذاتية فقط. لكن الخبرة تعلمنا أن محاولاتنا تُحبَط في اكثر الأحيان: فإننا لا نحوز العلم، ولا التملك، والسلطة، ولا ما نرغب به. وان تخطي الذات كهدف بحد ذاته دون وجود غاية تُوَجِّهُهُ وتَسمو به هي محاولة لا معقولة ولا جدوى منها لأنها تصب في الفراغ..