الفداء في المسيحية
أولاً: فكرة الفداء
لكي نعطي فكرة مبسطة عن الفداء من وجهة نظر مسيحية يلزمنا أن نتكلم عن: مفهوم الفداء، ثم نعطي أمثلة عن الفداء من الكتاب المقدس.
1- مفهوم الفداء:
الفداء هو التخليص من الموت ببدل (شخص بديل) . أي أن يتحمل الشخص الذي سيقوم بعملية الفداء الحكم المحكوم به على الشخص المفدى.
أو بمعنى أبسط : الفداء هو أن يموت الفادي بدلاً عن المفدى.
2- أمثلة للفداء:
لقد وضح الله فكرة الفداء هذه بطرق شتى نقتصر على ما يأتي:
أ- فداء اسحق:
لقد أمر الرب إبراهيم قائلاً: " خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق، واذهب إلى أرض المريا (اسم جبل)، واصعده هناك محرقة".
فذهب إبراهيم كما أمره الرب، وعند ما وصل إلى المكان المعين يقول الكتاب أنه "ربط اسحق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب. ومد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه. فناداه ملاك الرب من السماء وقال: "إبراهيم إبراهيم لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً. لأني علمت أنك خائف الله، ولا تمسك ابنك وحيدك عنى. فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكاً في الغاب بقرنيه . فذهب إبراهيم وأخذ الكبش ، وأصعده محرقة عوض عن ابنه". (تكوين 22: 1-23)
لاحظ يا أخي في هذه الحادثة أن الرب بعد أن أمر إبراهيم بأن يذبح ابنه ويقدمه محرقة، عاد فعفي عنه وخلصه من ذبح اسحق والغي هذا الأمر؟!!
حقيقة يا أخي لا يمكن أن الله ينقض كلامه ويبدله، ومن أجل ذلك فقد أوجد كبشاً ليذبح عوضاً عن اسحق، وهذا هو ما يسمي بالفداء. فالكبش تحمل الحكم (وهو الذبح) عوضاً عن اسحق.
ب- فداء كل بكر إنسان:
يذكر الكتاب المقدس أنه عند ما كان بنو إسرائيل فى أرض مصر وقد أذلهم فرعون، أرسل الرب موسى النبي لينقذهم من يده ويخرجهم من أرض مصر.
ولكن فرعون عارض بشدة ولم يطلقهم بسهولة فضربه الرب هو وشعبه بالضربات العشر. وكانت الضربة الأخيرة هي قتل كل بكر فى أرض مصر من بكر الإنسان إلى بكر البهائم.
وبالرغم من وجود بني إسرائيل فى أرض مصر فى ذلك الوقت إلا أنه لم يصب أبكارهم شيئاً من هذه الضربات. لماذا؟ لأن الله قد جعل لهم شريعة في تلك الأيام وهي أن يذبح كل بيت حملا ويقدمونه ذبيحة للرب عوضاً عن كل بكر ليكون فدية عنه. هذا ما أمر به الرب قائلا: "كل بكر إنسان من أولادك تفديه" (خروج 13: 14).
ولاحظ يا أخي أن بكر كل إنسان كان لابد أن يقتل أسوة بأبناء المصريين لأن أمر الرب كان للملاك بأن يقتل كل بكر فى أرض مصر (خروج13: 14) فكان لابد أن يقتل أيضاً أبكار الإسرائيليين لأنهم كانوا فى أرض مصر. ولكن الرب ينقذهم من هذه الضربة فلا يقتل ابكارهم، ولكي يوفق بين أمره الأول بموت الأبكار وعفوه الثاني أن لا يموت أبكار الاسرائيليين، لهذا شرع لهم شريعة الفداء قائلاً: "كل بكر إنسان من أولاد تفديه (خروج13: 13).
ج - ذبائح الفداء للتكفير:
يتضح موضوع الفداء تماما فى العهد القديم، حيث كان الإنسان الذي يرتكب خطية يقدم فدية عن نفسه ليخلص نفسه من عقاب الله الذي يستحقه، فقد جاء في الشريعة أنه: "إن أخطأ أحد وعمل واحدة من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها، كان مذنباً وحمل ذنبه. فيأتي بكبش صحيح من الغنم. فيكفر عنه..فيصفح عنه"(اللاويين5:17–19)
وجاء أيضاً في الشريعة أنه:"إن سها كل جماعة إسرائيل، وعملوا واحدة من جميع مناهى الرب التي لا ينبغي عملها وأثموا ثم عرفت الخطية التي أخطأوا بها، يقرب المجمع ثوراً ابن بقر ذبيحة خطية. ويكفر عنهم فيصفح عنهم" (لاويين 4: 13-21)
ولاحظ يا أخي أنه بحسب عدل الله لابد لمن يخطئ أن يموت (حزقيال 18: 20)، ولكن من أجل رحمته لابد أن يصفح عنه. وللتوفيق بين عدل الله ورحمته وضعت هذه الشريعة، شريعة الفداء فيقدم الفرد كبشاً وتقدم الجماعة ثوراً للتكفير ليصفح عنهم.
من هذا يا أخي يتضح لك فكرة الفداء التي شرعها الرب للتوفيق بين عدله ورحمته.
ثانياً : فداء البشرية
عرضنا في النقطة السابقة: فكرة عامة عن الفداء من حيث مفهومه، وقد أوردنا بعض الأمثلة من الكتاب المقدس في العهد القديم توضح ذلك. والواقع إن فكرة الفداء هذه التي وضحها الرب فى العهد القديم لم تكن إلا تمهيداً ورمزاً للفداء الحقيقي الذي دبره الرب لخلاص البشرية كلها من حكم الموت.فالكباش والثيران لا تكفى لفداء الإنسان، وعدالة الله في الحقيقة لا ترضي بفداء الحيوان للإنسان. وإن كانت قد سمحت بذلك فى العهد القديم فما كان ذلك إلا صورة ورمزاً للفداء الحقيقي . فالفداء الحقيقي يرتكز حول قول بولس الرسول:
"إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذاً ماتوا" (2كو5: 14) فلا بد من موت (واحد) فدية عن الجميع. ولكـن أي ( واحد ) هذا يا تري الذي يقدر أن يفدي البشرية كلها؟ الواقع أنه ليس هو مجرد (واحد) عادي، وإنما لابد أن تكتمل في هذا الواحد الذي سيفدي البشرية شروط معينة نبحثها فيما يلي:
1- شروط الفادى:
قلنا أنه يجب أن تتوفر فى الفادي باعتبار أنه سيفدي البشرية كلها شروط معينة إذ لا بد أن يكون الفادي: غير محدود، وفي نفس الوقت يكون إنسانا، ولكن لابد أن يكون إنسانا طاهرا.
فدعنا نستوضح هذه الشروط فيما يلي:
أ- الفادي غير محدود:
هذا هو أول شرط يجب أن يتوفر فى الفادى لما يأتي:
إن الخطية تُقدر قيمتها وفقاً لقيمة الشخص الـمُخطأ فى حقه، وعقوبتها أيضاً تقاس طبقاً لمركزه، والتكفير عنها يتناسب مع قيمته. فمثلاً إذا أخطأت فى حق زميل لي، تكون خطيتي محدودة ولا تحتاج لأكثر من اعتذار. أما إذا أخطأت فى حق (صاحب السلطة) فإني أستحق عقوبة شديدة ولا يكفي لها مجرد الاعتذار. وهكذا إذا أخطأت فى حق الله فإن خطيئتي تعتبر غير محدودة، لأن الله غير محدود وأستحق عقاباً غير محدود، ولهذا فان فدائي يحتاج إلى كفارة غير محدود.
لذلك فإن الفادي الذي يكفر عن خطيتي يجب أن يكون غير محدود.
هذا عن الشرط الأول من شروط الفادي، أما الشرط الثاني فيجب أن يكون:
ب- الفادي أنسانا:
إذ لابد أن يكون الفادي من جنس المفدي ومساوياً له فى القيمة. فلا يصلح إذن الحيوان أن يفدي الإنسان لأنه ليس من جنسه ولا من قيمته. لهذا يجب أن يكون الفادي إنساناً ليفدي الناس.
كان هذا بخصوص الشرط الثاني من شروط الفادي، وأيضا لابد أن يكون:
ج- الفادي طاهراً:
وهذا هو الشرط الثالث الذي يجب أن يتوفر فى الفادي ذلك لأنه إن كان هو نفسه خاطئاً فانه لا يستطيع أن يفدى غيره وإنما يموت بخطية نفسه فقط.
إذن من هو الفادي الذي تكتمل فيه هذه الشروط؟
هل الحيوان تتوفر فيه هذه الشروط؟ كلا فالحيوان مخلوق محدود، وهو ليس إنسانا.
هل الملاك تتوفر فيه هذه الشروط؟ كلا. فالملاك مخلوق محدود، وهو أيضاً ليس إنسانا.
هل يوجد نبي تتوفر فيه هذه الشروط؟ كلا. فالنبي مخلوق محدود، وهو أيضاً ليس طاهراً. إذ أنه من نسل آدم الذين تلوثت دماؤهم بجراثيم الخطية!
إذن من هو الفادي الذي تكتمل فيه هذه الشروط؟
2- الفادي الوحيد:
رأينا في النقطة السابقة الشروط التي يجب أن تتوفر في الشخص الذي يفدي البشرية، ورأينا أيضا أنه لا يصلح لفداء البشرية حيوان ولا ملاك ولا نبي. إن مشكلة الفداء هذه قد أوجد الله لها حلا وحيدا فريدا بحكمته الفائقة، وهذا الحل هو شخص يسوع المسيح الفادي. ولنبحث الآن كيف اكتملت شروط الفادي فى شخص المسيح.
أ- الله وحده غير محدود:
لا يوجد يا أخي كائن غير محدود سوى الله وحده، لهذا فلا يوجد سوى حل واحد للمشكلة وهو أن يتنازل الله ويفدى الإنسان.
ولهذا دبر الله أن يحل روحه غير المحدود في جسد المسيح البشري المحدود ليكسبه صفة غير المحدودية المطلوبة في الفادي. وهذا ما وضحه الكتاب المقدس بقوله: "عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد" (1تى 3: 16) (ولمزيد من فهم سر التجسد الإلهي انظر كتاب المسيح ابن الله للمؤلف)
ب- المسيح إنسان:
فالله أخذ من مريم العذراء جسداً وحل فيه بروحه، لذلك فالمسيح من جهة الجسد هو إنسان كامل. فقد قال عنه بولس الرسول أنه "أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس. وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتي الموت موت الصليب" (فيلبى 2: 7،8)
ج- المسيح طاهر:
وهذا الشرط أيضاً قد اكتمل فى المسيح. فبطرس الرسول يقول عنه: "لم يفعل خطية ولا وجد فى فمه مكر" (1بط2: 22)
وقد وقف المسيح أمام اليهود قائلاً:"من منكم يبكتني على خطية" (يوحنا 8: 46)
من هذا يا أخي نرى أن يسوع المسيح هو الفادي الذي اكتملت فيه الشروط المطلوبة، فهو من جهة طبيعته الإلهية غير محدود، ومن جهة طبيعته البشرية هو إنسان، ومن جهة الطهارة فهو لم يعرف خطية قط. لذلك قدم نفسه ذبيحة على الصليب ليكفر عن خطايا البشرية ويموت فداء عن الناس جميعاً، ولهذا يقول الكتاب المقدس "متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح. الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة" (رو3: 24،25)
هذا هو يسوع المسيح الذي به صار لنا الفداء بدمه غفران الخطايا. فهل تتخذه مخلصاً شخصياً لك. وهل تؤمن بكفارته لخطاياك وآثامك؟
ثالثاً:عمل الفداء
إن تحليل عمل الفداء نفسه والبركات التي حصلنا عليها أمر يطول شرحه ولكني أكتفي ببعض من تلك البركات فيما يلي:
1- الرحمة:
فالفداء يا أخي هو عمل رحمة من الله، إذ يقول الكتاب المقدس: "لا بأعمال فى بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا" (تيطس 3: 5).
إذن ليس لأحد منا أي فضل فى هذا الفداء وإنما هو صادر من قلب الله المحب والمفعم بالرحمة. أفلا يحق علينا أن نشكر الرب على رحمته الجزيلة.
2- الشفاعة:
معنى الشفاعة هو أن يتوسط المسيح بين الله والناس ليمنع عقابه عنهم لأنه مات بدلا منهم. لهذا يقول الكتاب المقدس:"لنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً"1(يوحنا 2: 1)
وهو الشفيع (أي المحامي) الوحيد الذي لا يستطيع غيره أن يخلص فالكتاب المقدس يقول "ليس بأحد غيره الخلاص. لأنه ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص" (أع4: 12)
3- الموت عوض البشرية:
يقول بولس الرسول "إن كان واحد مات عن الجميع فالجميع إذن ماتوا" (2كو4: 14) فموت المسيح عن البشرية اُعتُبر فى عدالة الله أنه موت للبشرية كلها لأن المسيح أسلم نفسه لأجلنا كما يقول الكتاب المقدس عن المسيح "أنه أحبنا أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قربانا وذبيحة لله رائحة طيبة" (أفسس 5: 2) ولهذا نقول فى صلاة القداس الإلهي "هذا الذي أحب خاصته الذين فى العلم وأسلم ذاته فداء عنا إلى الموت الذي تملك علينا" (القداس الباسيلى)
4- إحياء البشرية:
فالسيد المسيح لم يصلب عن البشرية فحسب وإنما قام من الأموات ليقيم البشرية معه من موت خطاياها لتسلك فى حياة جديدة مقدسة. فقد قال الكتاب "ونحن أموات بالخطايا (أي تحت حكم الموت كعقوبة للخطية) أحيانا مع المسيح (أي رفع عنا حكم الموت وأعطانا حياة من جديد مع المسيح). وأقامنا معه (أي بقيامة المسيح من الموت أقامنا نحن أيضا من موت الخطية)" (أفسس 2: 4-6)
ويقول أيضاً "كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً فى جدة الحياة" (رو 6: 4،5)
فيا من مات المسيح من أجلك هل تعتبر نفسك مائتاً عن الخطية. أم مازلت عبداً لها؟ وهل قمت مع المسيح لتسير فى حياة مقدسة؟ أم لازلت مسجى فى قبر الخطية؟! اطلب منه أن يقيمك الآن في حياة جديدة طاهرة.
5- تمجيد البشرية:
يقول الكتاب المقدس: "أجرة الخطية هى موت. أما هبة الله فهى حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا" (رو6: 23) وهكذا نرى أن الله قد وهبنا الحياة الأبدية لأن المسيح يسوع قد مات عنا.
ويقول الكتاب أيضاً "ونحن أموات بالخطايا أحياناً مع المسيح وأقامنا معه وأجلسنا فى السماويات فى المسيح يسوع" (أف2: 4-6)
فإذ قام المسيح من الأموات أقامنا معه وبهذا قد فتح لنا باب السماء لندخل إليها ونتمتع معه.
ولهذا يقول بولس الرسول "اسلكوا كما يحق لله الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده" (أف2: 12)
فهل تسلك يا أخي فى حياة النعمة والقداسة لتتمتع بالملكوت والمجد الأبدي؟