في أحد المستشفيات..
كان لقاء..
وكانت صداقة..
وكم من صداقات، هي وليدة الألم: آلامنا، أو آلام غيرنا !
لذلك فهي حميمة، وعظيمة بمقدار الألم العظيم !
تعرّفت إليها:
أرملة وثكلى.. فى مقتبل العمر..
فقدت وليدها، وزوجها في حادث مأساوي..
أبقى آثاراً واضحة المعالم على جسدها، الذي كاد أن تلتهمه النار..
...إلا نفسها..!
فقد حمل روحها، باقتدار، جسدها الذي يئن !
ناولتنى صورتها التي سبقت الحادث..
وقالت لي :
هذه آخر صورة ألتقطت لي..
فقد امتنعت عن الظهور فى أي صورة من الصور : فردية أو جماعية..
كانت الصورة جيدة زاخرة بالحياة..
أو : كالحياة ذاتها..
تأملت تلك الملامح، التي كشفتها العدسة فى لقطة..
ففي كلّ صورة من صور الإنسان غنىً لا ينضب..!
إنها جزء منه ، ومن شخصيته..
مع أننا أمام العدسة لا نرى سوى أنفسنا..
ولا نحس إلا باللحظة الزائلة التى ينفتح فيها مصراع آلة التصوير..
وينغلق في اقتناص !
وتساءلت :
ترى ماذا كنّا سنبدو فى تصاويرنا..؟
لو كنّا نعلم بما سيحدث لنا من أحداث عميقة ومؤثرة ؟
فلو كانت هذه السيدة التى ترقد على السرير الابيض، تعلم بما سيلمّ بها فى المستقبل،
لما ظهرت على بساطتها، وهدوئها، المرتسمين على وجهها فى هذه الصورة..
ولفقدت إلى الأبد واحدة من الذكريات التاريخية فى حياتها..
لا بد وأن نقرّ بأن الجمال الحق لا يكمن فى الملامح المتناسقة..
بل في الروح الثاوية خلف حجاب يقينا مصاعب الحياة..
وكمهمة المصور، علينا أن ننفذ إلى ما وراء المظهر الخارجي..
لنكشف الجمال المستتر.
فلوحة : " الجيوكندا ".. أو : " الموناليزا ".. الشهيرة والثمينة..
لا يرجع تقديرنا لها إلى جمال مثير فى سيدة اللوحة..
وإنما لما وراء هذه اللوحة من مشاعر وومضات وعبقرية الفنان الذي وجّه أنظارنا بلمساته السحرية :
إلى ذواتنا بما فيها من خلق ، وابتكار، وإبداع..
وإلى غيرنا ، فنشاركهم مشاعرهم..
وإلى ذاته ، إلى : ليوناردو دافنشي.. الإنساني العميق، الذي تأثر كثيراً بأحزان سيدة اللوحة : ليزا .. الشمعة المحترقة !
أعدت الصورة إلى سيدة الصداقة..
وقد تعلمت :
أنّ الإنسان أعظم من الصورة..
ومهما شوهته الأحداث جسدياً..
ستبقى فيه تلك الروح الخلاقة المتصلة بالله..
فهي التي تعكس مدى أهميته في الكون..!