العدد العديد من الناس يميل إلى اعتبار اللعب عند الأطفال شيئاً عديم الفائدة، قليل النفع، ليس له غاية مأمولة، وكثيراً من الآباء يأمرون أطفالهم بألاّ يضيعوا وقتهم فيه، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل اللعب عند الأطفال مضيعة للوقت؟
بادئ ذي بدء لابد من تفصيل أنواع اللعب، وتقديم العلاج لكل نوع: النوع الأول يتعلم منه الطفل حقائق عن الأشياء المحيطة به، والتي تتصل بشكل أو بآخر بحياته كالآلات والمحركات والعجلات وغيرها، أما النوع الثاني فهو ذلك اللعب الذي يتعاون فيه عدد من الأطفال في جماعات متقاتلين أو متدافعين أو مشتركين في لعبة منظمة، والنوع الثالث ينبثق من الثاني ويتميز ويظهر فيه من تخيل وإيهام وهو أسهل ما يكون على الأطفال.
من الشائق لنا أن نراقب لعب صغار الحيوان، وأمتع منه أن نراقب الأطفال وهم يصبغون لعبهم بصبغة التخيل والإيهام، وإذا ما أنصتنا جيداً إلى الملاحظات التي يقرن بها الطفل لعبه المتنوعة، تكوّن لدينا الكثير من مفاتيح أفكاره، وعرفنا شيئاً غير يسير عن مكنونات نفسه وآرائه، فالطفلة التي تقول لك:
" إن عروسي لا تبكي إذا غسلنا شعرها الآن " مركزة على كلمة الآن ومميزة إياها عن غيرها من كلمات الجملة، فكأنها تعترف بقولها هذا أن غسل شعرها كان يسبب لها بعض العناء في السابق أما الآن فالوضع متباين وأفضل من ذي قبل.
يخبرنا علماء النفس أن اللعب غريزة، أي أنه واحد من الميول التي ننزع إليها كنزوعنا إلى الأكل والنوم، وأن كل شخص طبيعي في نموه لابد له من اللعب. فكلنا يجب أن يلعب وخاصة في العصر المتعب، والمثقل بالهموم، ونحن إذ نتكلم عن لعب الكبار علينا ألا نستعمل كلمة "لعب" وحدها، ولكننا نتحدث عن تمضية الوقت، وعن الاستجمام واستعادة النشاط باعتبارها عوامل هامة ومساعدة في طرد السآمة والملل، وبعث روح جديدة من النشاط تساعدنا على استئناف العمل.
أما الحال في الأطفال فمختلفة تماماً، ذلك أن اللعب عمل الطفل، وضروري لنموه وتنشئته، وأنه تدريب للحياة، وكلما أجهد الطفل نفسه في اللعب، صار أكثر صلاحاً للحياة المستقبلية، ولكن ما الذي يحمل الطفل على بذل جهده وطاقته في اللعب ؟ وماذا يجني الطفل من ذلك اللعب ؟
جميع الغرائز مرتبطة بتوليد الطاقة، فالخوف يملؤنا طاقة ويجعلنا أسرع في الهرب، والغضب يجعل أفعالنا أكثر عنفاً، أما اللعب فيدفع الطفل إلى الصخب أو الرقص هنا وهناك، وتصريف طاقته بأي شكل من الأشكال ، والطفل الذي لا يعطى الفرصة لتحرير تلك الطاقة يصبح نزقاً، برماً، سريع الغضب.
هذه الطاقة يمكن أن تُستعمل في نشاطٍ عقلي، والطفل المريض الذي لا يقوى على الحركة يمكنه أن يُعمل عقله، وفي حالة الصحة التامة ينبغي أن يُحفظ التوازن بين ما يُسمى لعباً عضلياً ولعباً ذهنياً، أو لعب الجسم ولعب العقل.
الأطفال الصغار غالباً ما يكون لعبهم عضلياً، حتى إذا كبروا ازدادت حاجتهم إلى اللعب العقلي، ومن واجب المدرسة أن تزوّد الأطفال بما يحتاجون إليه من لعبٍ عقلي، من خلال دروسٍ شيّقةٍ، ممتعةٍ لدرجةِ أنها لا يمكن أن تكون في الحقيقة عملاً، وإذا نظرنا إلى اللعب من هذه الزاوية وجدناه منفذاً لا بدّ منه للطاقة الكامنة في أعماق الطفل، والمتولدة من غريزة اللعب تلك.
الطفل الصغير يمسك بعض الأشياء التي تقع في متناول يده ويضرب بها أرض الغرفة، وعندما يتقدم قليلاً في السن يقذف بها، وقد يأخذ شيئين أو كتلتين يقرع إحداهما بالأخرى، أو يقوم بعملٍ من هذا القبيل، وهو من خلال ذلك لا يتعلم استخدام عضلاته، ولا تنسيق حركاته فحسب، ولكنه يتعلم شيئاً كثيراً عن صفات الأشياء التي يستخدمها، وبهذا يبدأ بمعرفة أمور خاصة بدنياه التي يحيا فيها.
وإذا ما اشتدّ ساعده، وثبتت حركاته، وصار عقله أقدر على التفكير المعقد، بدأ باستعمال الأشياء لهدفٍ محددٍ لديه، وكلما ازداد ذلك التعلم لدى الطفل، ازداد حبه لممارسة تلك الموضوعات المعقدة، فالولد الكبير يريد مجموعة كاملة من الألعاب المفيدة في تشييد بناءٍ ما، والبنت الكبيرة تريد عروساً تقوم بإلباسها ثيابها وغسلها.
في هذه الأيام تعددت الألعاب وتنوعت، وبإمكان الطفل وبمقدوره أن يحصل منها على ما يريد، ولكنها سلاح ذو حدين، فاللعبة التي لا يفهمها الطفل، ولا يعرف كيفية اللعب بها يلجأ إلى تكسيرها وتحطيمها،لأنّ اهتمامه بكيفية عملها يفوق اهتمامه بحركتها أو سيرها، ومن أقوى الميول عند الأطفال رغبتهم في معرفة كيف يتحرك الشيء، فنراهم لذلك يفكون اللعبة إلى قطعٍ وأجزاء بدلاً من محاولة تسييرها، وأشدّ ما يكرهون اللعب التي لا يستطيعون فهمها.
اللعب بالأشياء العادية يفيد الأطفال باستعمال أصابعهم، ويمدّهم بالمعلومات عن الأشياء التي تحيط بهم في حياتهم اليومية، غير أنّ هذه الممارسة قد تختلف من طفل لآخر، فهذا يقلد في لعبه، وآخر يلجأ إلى التخيُّل والإيهام، وثالث تغلب عليه النزعة الواقعية وممارسة الأشياء الحقيقية.
وعندما يختلط الطفل بأطفال آخرين، يتطور لعبه تبعاً لذلك، وتغلب عليه صبغة النشاط الجمعي، وهذا اللعب ذو قيمة عظيمة، وفائدة جمّة في تعليم الطفل كيفية المعاشرة، والتعامل مع الأعضاء الآخرين من الجماعة، ليكون عضواً مقبولاً لديهم، لأنّ الأطفال سريعو الملاحظة لأشكال السلوك غير الحميدة، وسريعو تصحيحها، وتقويم إعوجاجها، غير أنّ للّعب جانباً آخر عظيم الأهمية يتمثل في الأطفال الذين يلعبون، ويطلقون العنان لخيالاتهم الجامحة، ويتوهمون الخيال حقيقة فيما يلعبون به من الأشياء، كأن يكون لكل طفل من المجموعة اسم، أو صفة تميزه عن غيره، وإذا ما تلاقوا مرة ثانية ساروا في القصة الوهمية من حيث انتهوا في المرة السابقة وهكذا يلعبون ويلهون دونما ضرر.
من الجوانب الهامة في اللعب ما ينطوي عليه من المقدرة على العمل والإنجاز، فالطفل الذي يبني قلعة ويسابق في لعبةٍ ما، يتأثر تأثراً عميقاً بنجاحه أو فشله لا في لحظة اللعب ذاتها بل في موقفه العام من الحياة، وهذا ما يستدعي أن يكون اللعب مناسباً لقدرات الطفل.
في ألعاب المهارة لا خير من تشجيع الطفل على المران والتدرب، ليظهر أثناء السباق بالمظهر اللائق به بين أترابه وأقرانه، محتفظين بالتوازن اللازم بين اللعب في طريقةٍ خاملةٍ مهملةٍ، وبين التحمّس له والاندفاع فيه اندفاعاً خارجاً عن حدِّ القصد والاعتدال.
وختاماً نقول:
إنَّ اللعب نافعٌ وضروريٌ للطفل، وهو الطريقة التي يُمرَّن فيها الطفل على الحياة، وهو الذي يمده بالمعلومات عن المحيط الذي يحيط به، والناس الذين يحيا معهم، والذين سوف يختلط وإياهم في السنوات المقبلة.
وإذا أردنا مساعدة الطفل على أن ينمو نموّاً طبيعياً، وَجَبَ علينا أن نتأكد أنَّ لديه رفاقاً مناسبين ليلعب معهم، وفرصاً يتمكن فيها من ملاقاة أولئك الرفاق وأدوات لعب مناسبة لسنّه وقواه.
على الآباء أن يخصصوا جزءاً من تفكيرهم للعب أطفالهم، كي يجدوا أنَّ تعبهم لم يضع سدى، فينمو أطفالهم نمواً متزناً، وتزول متاعبهم السلوكية المقلقة، ويصبحون أكثر بهجةً وأوفر سعادةً وهناء.