النفس عند أرسطاليس
يرى أرسطو أن القوة الخفية التي تنظم الشيء وتحقق له الانسجام في سيره من الهيولي إلى الصورة هي نفسه؛ فنفس النبات هي القوة السارية فيه التي تُهيئ له الْجِسمية النامية على وجه أكمل، ونفس الحيوان هي القوة السارية فيه التي تُهيئ له الْجِسمية النامية الحاسة على وجه أكمل ... وهكذا.
وكلما ترقَّت رُتبَة الموجود ارتقت نفسه لرُقِيِّه، والنفس الإنسانية عند أرسطو في أعلى مراتب النفوس في العالم الطبيعي، وهي فيما دون فلك القمر!!
أولًا ـ علاقة النفس بالجسم:
يرى أرسطو أن تركيب النفس مع الجسم هو من نوع تركيب المادة بالصورة، ولذلك؛ فلا يمكن أبدًا اعتبار النفس والجسم شيئين مستقلين، بل يجب اعتبارهما وجهين لكائن واحد، ومن هنا؛ يتَّضح أن انفصال النفس عن الجسم أمر غير ممكن.
وذلك لأن كل صورة تؤلِّف مع المادة القريبة منها شيئًا واحدًا؛ فالمادة تمثل جانب القوة والصورة تمثل الحيثية الفعلية لذلك الشيء، وعلى هذا الأساس لا يرى أرسطو أي معنى في البحث في كيفية اتحاد النفس مع الجسم.
الأمر الآخر الذي يجب الالتفات إليه هنا هو أنه عند طرح السؤال التالي: هل للنفس صفات وأفعال خاصة بها، أم أن جميع حالات النفس تخص كائنًا حيًّا مركبًّا من النفس والجسم؟ يختار أرسطو الشق الثاني من السؤال، لأن النفس ـ في نظره ـ ليست مستقلة عن الجسم، وتأسيسًا على ذلك، يرى أرسطو أن النفس والجسم كلاهما يولدان معًا وكلاهما يفنيان معًا.
ثانيًا ـ النفس صورة للجسم:
النفس عند أرسطو جوهر، و لكنها جوهر ذو أنواع مختلفة، فلا بد أن نعرف النفس من أي أنواع الجوهر هي عند أرسطو.
إن قسمًا من أقسام الجوهر هو المادة، و هي ما لا تكون بذاتها شيئًا معينًا، وإنما لها قوة تقبل الأشياء فحسب، وقسم آخر من الجوهر هو الصورة التي تعطي للمادة فِعلِيتها وتجعلها شيئًا معينًا، والقسم الثالث من الجوهر هو تركيب يجمع بين المادة والصورة، وهذا ما يطلق عليه أرسطو اسم الجوهر الأول، ويرى أنه أجدر بحمل اسم الجوهر، وهذا الجوهر هو الجسم نفسه، والنفس عند أرسطو هي النوع الثاني من أنواع الجوهر.
بناء على ذلك؛ فالنفس صورة تتحقق في المادة وتمنحه الفعلية، وتخلق نوعًا خاصًا من أنواع الجسم، يقول أرسطو: ( النفس جوهر بالضرورة، أي أنها صورة للجسم الطبيعي الآلي الحي بالقوة )، ويقول: ( النفس جوهر بمعنى الصورة، أي أنها ماهية جسم ذي كيفية معينة ).
ثالثًا ـ قوى النفس:
وتأسيسًا على قوله بأن النفس صورة تتحقق في المادة وتمنحه الفعلية؛ جعل أرسطو للنفس الإنسانية قوى مختلفة، هي وجوه مختلفة لشيء واحـد مع بساطة جوهرها، وكل واحدة منها يؤدي وظيفة معينة، وهذه القـوى هي:
1 ـ الحاسة: وهي التي تدرك المحسوسات، بما لها من صفات وعوارض حسية.
2 ـ الحس المشـترك: وهي التي تدرك التشابه والتضاد بين الأشياء المحسوسة ووجوه كل منهما؛ إذ لا يمكن إدراك السواد إلا بإدراك نقيضه وهو البياض، وهذا الإدراك المشترك هو وظيفة الحس المشترك.
3 ـ المخيلة: وهي القوة التي تنقل إلينا صور الأشياء بعد مرورها بالحس المشترك.
4 ـ الحافظة: وهي القوة التي تحصل بها صور الأشياء مع إدراكها بأن هذه الصـور حصلت عن إحساس سابق.
5 ـ الذاكرة: وهي القوة التي تُستعاد بها صور الأشياء وتُستَحضر بعد غيابها ونسيانها.
6 ـ القوة العاقلة: وهي التي تدرك المعاني الكلية لصور الأشياء جميعها؛ فموضـوعها الفكر والمعقولات، وتنقسم إلى: العقل القابل: الذي هو استعداد القوة لأن تعقل، وإلى العقل الفاعل: الذي هو عقلها بالفعل، ومجموع هذه القوى هي النفس الإنسانية.
رابعًا ـ الحالات النفسية:
يرى أرسطو أن حالات النفسية ـ مثل الغضب والحزن والفرح والخوف وأمثالها ـ تكون من حالات الكائن المركَّب من النفس والجسم، وهي حالات لا يمكن نسبتها ابتداء وذاتيًا إلى النفس، ولا اعتبار نسبتها إلى الجسم ثانويًا وتابعًا، أي أنَّ عند ظهور أي حالة في النفس يستلزم اشتراك النفس والجسم، بحيث أنه عند بيان إحدى الحالات النفسية؛ لا بد من ملاحظة الحالة التي تظهر على الجسم في الوقت نفسه.
ولذلك؛ عند بيان هذه الحالات لا بد من الأخذ بنظر الاعتبار حالات جسمية خاصة تظهر مواكبة لها وإيرادها عند تعريف تلك الكيفية؛ فمثلًا: عند تعريف حالة الغضب؛ لا يمكن أن نكتفي بالقول بأن: ( الغضب حالة تظهر في النفس استعدادًا للهجوم والانتقام )، بل لا بد من الإشارة إلى التغيير الذي يقترن بهذه الحالة في القلب وارتفاع حرارة الجسم، واعتبار ذلك متمِّمًا للوصف.
ولهذا يقول: ( إذا ظهرت حالات جسمية مما تقترن مع بعض العواطف، مثل: الغضب والخوف؛ فإن تلك العواطف نفسها تظهر أيضًا، حتى إذا كانت العلل الروحية لظهورها ضعيفة جدًّا أو عديمة الوجود ).
خامسًا ـ بقاء النفس:
يرى أرسطو أن النفس تتصل بالجسم اتصال تدبير وتصرف، وأنها حدثت مـع حدوث البدن، وأنها تبقى بعد مفارقة البدن بعوارض معينة له إن لم توجد تلك العوارض قبل اتصالها بالبدن.
وعلى الرغم من قوله بعدم إمكانية بقاء النفس إذا لم يبق البدن، إلا أنه قال بأن النفس إذا استكملت قوتي العلم والعمل تشبَّهت بالإله ووصلت إلى كمالها ـ على الرغم من أنه جعل الإله لا يعلم ما في العالم لا من جهة الخلق والتدبير، ولا من جهة العلم تنزيهًا له ـ وهذا التشبه بقدر الطاقة، ويكون بحسب الاجتهاد أو بحسب الاستعداد، وإذا فارقت البـدن اتصلت بالروحانيين "عالم العقل" وتم لها الالتذاذ والابتهاج.